فصل: تفسير الآيات (94- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (94- 96):

{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}
{فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرَّم ما ذُكر قبل نزولِ التوراةِ على بني إسرائيلَ و(على) مَنْ تقدَّمهم من الأمم {مِن بَعْدِ ذلك} من بعد ما ذُكر من أمرهم بإحضار التوراةِ وتلاوتِها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزامِ، والتقييدُ به للدَلالة على كمال القبحِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ، والجمعُ باعتبار معناه كما أن الإفراد في الصلة باعتبار لفظِه، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعدِ منزلتِهم في الضلال والطُغيان، أي فأولئك المُصِرُّون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقةُ الحال وضاقت عليهم حَلْبةُ المُحاجَّة والجدالِ {هُمُ الظالمون} المفْرِطون في الظلم والعُدوان المُبْعِدون فيهما، والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان كمالِ عُتوِّهم، وقيل: هي في محل النصبِ داخلةٌ تحت القولِ عطفاً على قوله تعالى: {فَأْتُواْ بالتوراة} {قُلْ صَدَقَ الله} أي ظهر وثبت صِدقُه تعالى فيما أنزل في شأن التحريمِ، وقيل: في قوله تعالى: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا} إلخ أو صَدَق في كل شأنٍ من الشؤون وهو داخلٌ في ذلك دخولاً أولياً، وفيه تعريضٌ بكذبهم الصريح {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} أي ملةَ الإسلامِ التي هي في الأصل ملةُ إبراهيمَ عليه السلام فإنكم ما كنتم متّبعين لمِلّته كما تزعُمون، أو فاتّبعوا مِلَّته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطَرَّتْكم إلى التحريف والمكابدةِ وتلفيقِ الأكاذيبِ لتسوية الأغراضِ الدنيئةِ الدنيويةِ وألزمتكم تحريمَ طيباتٍ محلَّلةٍ لإبراهيمَ عليه السلام ومن تبِعَه للدَلالة على أن ظهورَ صدقِه تعالى موجبٌ للاتباع وتركِ ما كانوا عليه {حَنِيفاً} أي مائلاً عن الأديان الزائغةِ كلِّها {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي في أمر من أمور دينِه أصلاً وفرعاً، وفيه تعريضٌ بإشراك اليهودِ وتصريحٌ بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقةٌ دينيةٌ قطعاً، والغرضُ بيانُ أن النبي صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيمَ عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءةِ عن كل معبودٍ سواه سبحانه وتعالى، والجملةُ تذييلٌ لما قبلها.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} شروعٌ في بيان كفرِهم ببعضٍ آخرَ من شعائر ملتِه عليه السلام إثرَ بيانِ كفرِهم بكون كلِّ المطعومات حِلاًّ له عليه السلام، رُوي أنهم قالوا: بيتُ المقدس أعظمُ من الكعبة لأنه مُهاجَرُ الأنبياءِ ولكونه في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبةُ أعظمُ فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ، أي إن أولَ بيتٍ وُضع للعبادة وجُعِل مُتعبَّداً لهم، والواضعُ هو الله تعالى ويؤيِّده القراءةُ على البناء للفاعل، وقوله تعالى: {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} خبرٌ لإن وإنما أُخبر بالمعرفة مع كونِ اسمِها نكرةً لتخصُّصها بسببين: الإضافةِ والوصفِ بالجملة بعدها أي لَلْبيتُ الذي ببكةَ أي فيها، وفي ترك الموصوفِ من التفخيم ما لا يخفى، وبكةُ لغةٌ في مكةَ، فإن العربَ تعاقِبُ بين الباء والميم كما في قولهم: ضربةُ لازبٍ ولازم، والنميطُ والنبيط في اسم موضعٍ بالدَّهناء، وقولِهم أمرٌ راتبٌ وراتمٌ وسبّد رأسَه وسمّدها وأغبطت الحمى وأغمطت.
وهي عَلَم للبلد الحرام من بكّة إذا زحَمه لازدحام الناس فيه. وعن قتادة يُبكُّ الناسُ بعضُهم بعضاً أو لأنها تُبكُّ أعناقَ الجبابرة أي تدُقُّها، لم يقصِدْها جبارٌ إلا قصمَه الله عز وجل، وقيل: بكةُ اسمٌ لبطن مكةَ، وقيل: لموضع البيتِ، وقيل: للمسجد نفسِه، ومكةُ اسمٌ للبلد كلِّه وأيَّد هذا بأن التَّباكَّ وهو الازدحامُ إنما يقع عند الطوافِ، وقيل: مكةُ اسمٌ للمسجد والمطاف، وبكةٌ اسمٌ للبلد لقوله تعالى: {لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً}. روي «أنه عليه السلام سُئل عن أول بيتٍ وضع للناس فقال: المسجدُ الحرام ثم بيتُ المقدس وسئل: كم بينهما؟ فقال: أربعون سنة» وقيل: أولُ من بناه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام وقيل: آدمُ عليه السلام، وقد استوفينا ما فيه من الأقاويل في سورة البقرة، وقيل: أولُ بيتٍ وضعَ بالشرف لا بالزمان {مُبَارَكاً} كثيرَ الخير والنفعِ لِمَا يحصُل لمن حجَّه واعتمره واعتكف فيه وطاف حوله من الثواب وتكفيرِ الذنوب، وهو حال من المستكنّ في الظرف، لأن التقديرَ للذي ببكةَ هو، والعاملُ فيه ما قُدّر في الظرف من فعل الاستقرار {وهدى للعالمين} لأنه قبلتُهم ومُتعبَّدُهم ولأن فيه آياتٍ عجيبةً دالةً على عظيم قدرتِه تعالى وبالغِ حكمتِه.

.تفسير الآية رقم (97):

{فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
كما قال: {فِيهِ ءايات بينات} واضحاتٌ كانحراف الطيورِ عن موازاة البيتِ على مدى الأعصارِ ومخالطةِ ضواري السباعِ الصيودَ في الحرم من غير تعرُّضٍ لها، وقهر الله تعالى لكل جبارٍ قصَده بسوء كأصحاب الفيل، والجملةُ مفسرةٌ للهدى أو حالٌ أخرى {مَّقَامِ إبراهيم} أي أثرُ قدميه عليه السلام في الصخرة التي كان عليه السلام يقوم عليها وقتَ رفعِ الحجارةِ لبناء الكعبةِ عند ارتفاعِه أو عند غسلِ رأسِه على ما رُوي أنه عليه السلام جاء زائراً من الشام إلى مكةَ فقالت له امرأةُ إسماعيلَ عليه السلام: انزلْ حتى أغسِلَ رأسَك فلم ينزِل فجاءته بهذا الحجرِ فوضعتْه على شقه الأيمنِ فوضع قدمَه عليه حتى غسَلت شِقَّ رأسِه ثم حولتْه إلى شقه الأيسرِ حتى غسلت الشِقَّ الآخَرَ فبقيَ أثرُ قدميه عليه. وهو إما مبتدأٌ حُذف خبرُه أي منها مقامُ إبراهيمَ أو بدلٌ من آياتٌ بدلَ البعضِ من الكل، أو عطفُ بيانٍ إما وحدَه باعتبار كونِه بمنزلة آياتٍ كثيرةٍ لظهور شأنِه وقوةِ دَلالتِه على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا} أو باعتبار اشتمالِه على آياتٍ كثيرةٍ فإن كلَّ واحدٍ من أثر قدميه في صخرةٍ صمَّاءَ وغوْصِه فيها إلى الكعبين وإلانةِ بعضِ الصخور دون بعضٍ وإبقائِه دون سائرِ آياتِ الأنبياءِ عليهم السلام وحفظِه مع كثرة الأعداءِ ألفَ سنةٍ آيةٌ مستقلةٌ، ويؤيده القراءةُ على التوحيد. وإما بما يفهم من قوله عز وجل: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} فإنه وإن كان جملةً مستأنفةً ابتدائيةً أو شرطيةً لكنها في قوةِ أن يقال: وأَمِنَ مَنْ دَخَله فتكون بحسب المعنى والمآلِ معطوفةً على مقامُ إبراهيمَ، ولا يخفى أن الأثنينِ نوعٌ من الجمع فيكتفى بذلك أو يحملُ على أنه ذُكر من تلك الآياتِ اثنتان وطُويَ ذكرُ ما عداهما دَلالةً على كثرتها ومعنى أمْنِ داخلِه أمنُه من التعرُّض له كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} وذلك بدعوة إبراهيمَ عليه السلام: {رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا} وكان الرجلُ لوْ جَرَّ كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب. وعن عمرَ رضي الله عنه لو ظفِرتُ فيه بقاتل الخطابِ ما مسَسْتُه حتى يخرُجَ منه. ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: من لزِمه القتلُ في الحِلّ بقصاص أو رِدَّةً أو زنىً فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرَّضْ له إلا أنه لا يؤوى ولا يُطْعم ولا يسقى ولا يُبايَع حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج. وقيل: أمنُه من النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرَمين بُعث يومَ القيامة آمِناً» وعنه عليه الصلاة والسلام:
«الحَجونُ والبقيعُ يؤخذ بأطرافهما ويُنثرَانِ في الجنة» وهما مقبرتا مكةَ والمدينة وعن ابن مسعود رضي الله عنه: وقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ثنيّة الحَجونِ وليس بها يومئذ مقبرَةٌ فقال: «يبعث الله تعالى من هذه البقعةِ ومن هذا الحرَم كلِّه سبعين ألفاً وجوهُهم كالقمر ليلةَ البدر يدخُلون الجنة بغير حساب يشفعُ كلُّ واحدٍ منهم في سبعين ألفاً وجوهُهم كالقمر ليلة البدر» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صَبَر على حرَّ مكةَ ساعةً من نهار تباعدت عنه جهنمُ مسيرةَ مائتي عام».
{وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملةٌ من مبتدإٍ هو حِجُّ البيت وخبرٍ هو لله، وقولُه تعالى: {عَلَى الناس} متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ من الاستقرار أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجار، والعاملُ فيه ذلك الاستقرارُ ويجوز أن يكونَ {عَلَى الناس} هو الخبرُ ولله متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ، ولا سبيل إلى أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمير المستكن في على الناس لاستزامه تقديمَ الحالِ على العامل المعنوي وذلك مما لا مساغَ له عند الجمهور وقد جوّزه ابنُ مالكٍ إذا كانت هي ظرفاً أو حرفَ جر وعاملُها كذلك، بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي، واللامُ في البيت للعهد، وحجُّه قصْدُه للزيارة على الوجه المخصوص المعهود، وكسر الحاء لغةُ نجدٍ، وقيل: هو اسمٌ للمصدر، وقرئ بفتحها {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} في محل الجرِّ على أنه بدلٌ من الناس بدلَ البعضِ من الكل مخصِّصٌ لعمومه، فالضميرُ العائد إلى المُبدْل منه محذوفٌ أي من استطاع منهم، وقيل: بدلَ الكلِّ على أن المرادَ بالناس هو البعضُ المستطيعُ فلا حاجةَ إلى الضمير، وقيل: في محل الرفعِ على أنه خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ، أي هم من استطاع الخ، وقيل: في حيز النصبِ بتقدير أعني، وقيل: كلمةُ {مِنْ} شرطيةٌ والجزاءُ محذوفٌ لدَلالة المذكور عليه وكذا العائدُ إلى الناس أي من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه حِجُّ البيت، وقد رُجِّحَ هذا بكون من بعده شرطية، والضميرُ المجرورُ في إليه راجعٌ إلى البيت أو إلى حِجّ، والجارُّ متعلقٌ بالسبيل، قُدِّم عليه اهتماماً بشأنه كما في قوله عز وجل: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} و{هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ} لما فيه من معنى الإفضاءِ والإيصالِ، كيف لا وهو عبارةٌ عن الوسيلة من مال أو غيرِه فإنه قد روى أنسُ بنُ مالكٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السبيلُ الزادُ والراحلة» وروى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما السبيلُ؟ قال: «الزادُ والراحلة» وهو المراد بما رُوي أنه عليه السلام فسَّر الاستطاعةَ بالزاد والراحلة وهكذا رُوي عن ابن عباسٍ وابنِ عمرَ رضي الله عنهم وعليه أكثرُ العلماء خلا أن الشافعيَّ أخذ بظاهره فأوجب الاستنابةَ على الزَّمِنِ القادر على أُجرة مَنْ ينوب عنه، والظاهرُ أن عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لصِحة البدنِ لظهور الأمر، كيف لا والمفسَّرُ في الحقيقة هو السبيلُ الموصِلُ لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يُتصوَّرُ بدون الصِحة.

.تفسير الآية رقم (98):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)}
{قُلْ ياأهل الكتاب} هم اليهودُ والنصارى وإنما خُوطبوا بعنوان أهليةِ الكتابِ الموجبةِ للإيمان به وبما يصدّقه من القرآن العظيمِ مبالغةً في تقبيح حالِهم في كفرهم بها وقوله عز وجل: {لِمَ تَكْفُرُونَ بئيات الله} توبيخٌ وإنكارٌ لأن يكون لكفرهم بها سببٌ من الأسباب وتحقيقٌ لما يوجِبُ الاجتنابَ عنه بالكلية، والمرادُ بآياته تعالى ما يعُمُّ الآياتِ القرآنيةَ التي من جملتها ما تُليَ في شأن الحجِّ وغيرِه وما في التوراة والأنجيلِ من شواهد نبوَّتِه عليه السلام، وقولُه تعالى: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} حال من فاعل تكفُرون مفيدةٌ لتشديد التوبيخِ وتأكيدِ الإنكار، وإظهارُ الجلالةِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وتهويلِ الخطبِ، وصيغةُ المبالغةِ في شهيدٌ للتشديد في الوعيد، وكلمةُ {مَا} إما عبارةٌ عن كفرهم أو هي على عمومها وهو داخلٌ فيها دُخولاً أولياً، والمعنى لأي سبب تكفُرون بآياته عز وعلا؟ والحالُ أنه تعالى مبالِغٌ في الاطلاع على جميع أعمالِكم وفي مجازاتكم عليها ولا ريبَ في أن ذلك يسُدُّ جميعَ أنحاءِ ما تأتونه ويقطع أسبابَه بالكلية.

.تفسير الآية رقم (99):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
{قُلْ ياأهل الكتاب} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال، والتكريرُ للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخِهم، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم كما أن قطْعَ قولِه تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ} عن قوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ} للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ، وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع فإن ذلك العنوانَ كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ الناسِ فيه، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ ولكون صدِّهم في بعض الصورِ بتحريف الكتابِ والكفرِ بالآياتِ الدالةِ على نبُوَّته عليه السلام، وقرئ {تُصِدّون} من أصَدَّه {عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصلِ إلى السعادة الأبدية، وهو التوحيدُ وملةُ الإسلام {مَنْ ءامَنَ} مفعول لتصُدُّون قُدِّم عليه الجارُّ والمجرورُ للاهتمام به. كانوا يفتِنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخولَ فيه بجُهدهم، ويقولون: إن صفتَه عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدّمت البِشارةُ به عندهم، وقيل: أتت اليهودُ الأوسَ والخزرجَ فذكّروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروبِ ليعودا إلى ما كانوا فيه {تَبْغُونَهَا} على إسقاط الجارِّ وإيصالِ الفعل إلى الضمير كما في قوله:
فتولى غلامُهم ثم نادى ** أظليماً أصيدُكم أم حمارا

بمعنى أصيدُ لكم أي تطلُبون لسبيل الله التي هي أقومُ السبل {عِوَجَا} اعوجاجاً بأن تَلْبِسوا على الناس وتُوهِموا أن فيه ميلاً عن الحق بنفي النسخِ وتغييرِ صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والجملةُ حالٌ من فاعل تصُدّون وقيل: من سبيل الله {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} حالٌ من فاعل تصُدون باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحالُ أنكم شهداءُ تشهدون بأنها سبيلُ الله لا يحوم حولَها شائبةُ اعوجاجٍ وأن الصدَّ عنها إضلالٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي شهداءُ (على) أن في التوراة إن دينَ الله الذي لا يُقبل غيرُه هو الإسلامُ أو وأنتم عدولٌ فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وعظائمِ الأمور {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} اعتراضٌ تذييليٌ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ، قيل: لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى على ما يعملون.

.تفسير الآية رقم (100):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين تحذيراً لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفتنتهم إثرَ توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ ردعاً لهم عن ذلك، وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوة أن يُقال: لا تُطيعوا فريقاً الخ، كما أن تعميمَ التوبيخِ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزولِ فإنه رُوي أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جُلوساً يتحدثون فمرّ بهم شاسُ بنُ قيسٍ اليهوديُّ وكان عظيمَ الكفرِ شديدَ الحسَدِ للمسلمين فغاظه ما رأى منهم من تآلُفِ القلوبِ واتحادِ الكلمةِ واجتماعِ الرأي بعد ما كان بينهم ما كان من العداوة والشنَآنِ، فأمر شاباً يهودياً كان معه بأن يجلِسَ إليهم ويذكِّرَهم يوم بُعاثَ وكان ذلك يوماً عظيماً اقتتل فيه الحيانِ وكان الظفرُ فيه للأوس ويُنشِدُهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخرَ القومُ وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا: السلاحَ السلاحَ فاجتمع من القبيلتين خلقٌ عظيم فعند ذلك جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه فقال: «أتدْعون الجاهليةَ وأنا بين أظهُرِكم بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية وألَّف بينكم؟» فعلِموا أنها نزعةٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقَوُا السلاح واستغفروا وعانق بعضُهم بعضاً، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمامُ الواحديُّ: اصطفوا للقتال فنزلت الآيةُ إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفَّيْن فقرأهنّ ورفعَ صوتَه فلما سمعوا صوتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنصَتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرَغ ألقَوا السلاح وعانق بعضُهم بعضاً وجعلوا يبكون. وقوله تعالى: {كافرين} إما مفعولٌ ثانٍ ليردُّوكم، على تضمين الردِّ معنى التصيير كما في قوله:
رمى الحِدْثانُ نسوةَ آلِ سعد ** بمقدار سمَدْن له سُمودا

فردَّ شعورَهن السودَ بِيضا ** ورد وجوهَهن البيضَ سودا

أو حالٌ من مفعوله، والأول أدخَلُ في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفرِ المفروضِ بطريق القسر، وإيرادُ الظرفِ مع عدم الحاجةِ إليه ضرورةَ سبقِ الخطابِ بعنوان المؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبْقِ الإيمانِ مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمالِ شناعةِ الكفرِ وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قُبحِه الصارفِ العاقلِ عن مباشرته أو لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل: بعد إيمانِكم الراسخِ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى.